عندما دخلت الولايات المتحدة الأميركية الألفية الجديدة دخلتها بالكثير من أجواء التفاؤل والثقة بالنفس. ولكن بعد مرورها بموجتين من الركود الاقتصادي، وخوضها لحربين ضروستين في وقت واحد، تراجعت موجة الثقة تلك كثيراً، بينما انحسرت علامات التفاؤل اليوم بشكل لا لبس فيه. وخلال الفترة نفسها، ارتفع حجم الإنفاق الدفاعي الأميركي إلى ما يقارب نصف حجم الإنفاق الدفاعي للعالم بأسره. وفي الوقت نفسه، تراجع نصيب أميركا من الإنتاج الاقتصادي العالمي، بينما تشهد اقتصادات بعض الدول الأخرى نمواً مطرداً ومتسارعاً. وفي هذا الصدد، حذّر تقرير صادر عن "مجلس الاستخبارات القومي" في نوفمبر 2008، من أن يكون استمرار هجرة الثروة من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية إلى شرق آسيا ظاهرة "غير مسبوقة في التاريخ". وليست هجرة الثروة وحدها، بل يجب القول أيضاً إن الارتفاع الهائل في عجز الموازنة العامة الأميركية وفي الميزان التجاري خلال العقد الماضي، يشكل هو الآخر ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ كذلك. وللحقيقة فقد ارتفعت المديونية الأميركية إلى حد يجعل الحكومة تستدين حوالي 40 سنتاً مقابل كل دولار تنفقه! وفي ظل ظروف كهذه، فإنه لا معنى البتة للزعم بأن أميركا لا تزال هي القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، لأنها في الواقع عبارة خاوية من المضمون. وللخبراء أن يتحاوروا كما يروق لهم في شأن الدور الذي لعبه الارتفاع الهائل في حجم الإنفاق العسكري في التدهور الذي وصل إليه أداء الاقتصاد الأميركي. غير أن من غير المشكوك فيه بالقدر نفسه: تراجع قدرة أميركا على المحافظة على التزاماتها العسكرية في مستواها الحالي. وهناك بالطبع الكثير من الخطوات القصيرة المدى، التي يمكن لإدارة أوباما اتخاذها بغية الحد من أعباء الإنفاق العسكري، مثل خفض وجودها العسكري في كل من أفغانستان والعراق، إضافة إلى الحد من الإنفاق الدفاعي على الأسلحة غير الضرورية. وفي هذا الصدد، قدّر وزير الدفاع الأميركي "روبرت جيتس" أن من شأن التخفيضات التي أجراها العام الماضي في الإنفاق الحربي، خفض الإنفاق على الأسلحة الجديدة المقترحة بما تعادل قيمته 330 مليار دولار. ولم يكتف الوزير بتلك الخطوة وحدها، بل تبعها بخطوات أخرى يحاول فيها استقطاب الدعم اللازم لإجراء المزيد من الخفض الدفاعي. ويجب أن تشمل هذه الإجراءات، خفض مستوى القوات المقاتلة نفسها. ذلك أن تكلفة مرتبات الجنود والمزايا الكبيرة الممنوحة لهم، تثيران الكثير من الشكوك في قدرة أميركا على تمويل ما يسمى بـ"القوة الطوعية القومية المقاتلة". ولا ريب في أن هذه الخطوات الهادفة إلى خفض مستوى الإنفاق الحربي ستثير جدلاً مريراً محتدماً بين أعضاء الكونجرس، بالنظر إلى التضحيات الكبيرة التي طولبت قواتنا بتحملها خلال العقد الماضي. ومهما يكن من مرارة الحوار التشريعي حول هذه القضايا، فإن الحقيقة الاقتصادية التي لا جدال فيها هي أن عجز الموازنة الفيدرالية قد بلغ ما يقدر بـ 1.47 تريليون دولار، وأن الحكومة تنفق يوميّاً 4 مليارات دولار لا تملكها وتضطر إلى استدانتها. وهي حقيقة ترغمنا شئنا أم أبينا على خفض مستوى قواتنا والتزاماتنا العسكرية الخارجية حاليّاً. ومما يؤكد صحة هذا النهج الواقعي، أن جيتس نفسه قال مؤخراً: "بعد انتهاء حربي العراق وأفغانستان، لن تخاطر بلادنا مطلقاً بالدخول في تجربة جديدة لبناء الأمم تحت فوهات البنادق والنيران". والسؤال الكبير المثير للقلق الذي يواجهه واضعو السياسات الدفاعية والأمنية، ليست له علاقة بما إذا كان يتعين على أميركا خفض إنفاقها الدفاعي، فهذا أمر محتوم ولا مفر منه. بل السؤال الجوهري هو: هل تستمر المحافظة على الأمن الدولي، على رغم انكماش الدور الدفاعي الأميركي؟ فمنذ الحرب العالمية الثانية، واصلت أميركا تحملها للمسؤولية الرئيسية في منع اندلاع الحروب، وحماية المناطق الحيوية مثل المراكز الصناعية الرئيسية، وحقول النفط الشرق أوسطية. وعلى أية حال، فإنه يتعين على واشنطن الآن أن تكون أكثر انتقائية وحذراً في تحديد التزاماتها الدولية، حتى وإن اتسعت دائرة المخاطر وأصبحت أكثر انتشاراً وتنوعاً. ومن الواضح أن السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف، دون الإخلال بالأمن أو التسبب في المزيد من العدوان والعنف، هو فتح الباب واسعاً أمام مشاركة الحلفاء والأصدقاء في حماية الأمن العالمي. وبعبارة أخرى أكثر تحديداً: فإن على الدول الحليفة مثل ألمانيا واليابان والهند وغيرها أن تتقدم لملء الفجوة الاستراتيجية التي يسببها الانسحاب الأميركي من دور شرطي العالم. هذا ويلاحظ أن إدارة أوباما لم تعترف صراحة بتراجع الدور الأميركي العالمي، بيد أنها وضعت من الاستراتيجيات والسياسات ما يستجيب لمثل هذه الظروف الجديدة بشكل مناسب. ذلك أن هذه الإدارة أعلنت عن استراتيجية تشدد على أهمية دور ومشاركة الحلفاء والدول الصديقة -بما فيها الشركاء الدوليون الصاعدون الجدد- في تحقيق الأهداف الدفاعية المشتركة، لاسيما الدفاع عن أمن العالم وسلامته في مواجهة خطر الإرهاب والتمرد الدوليين. وعلينا تثمين هذه الاستراتيجية والاعتراف بحكمتها، ليس لمجرد التنامي المتوقع لدور الحلفاء والشركاء الدوليين في الالتزامات الخارجية العالمية فحسب، وإنما أيضاً لقدرة الحلفاء والأصدقاء على فهم السياق الثقافي الاجتماعي للنزاعات المحلية التي تنشب في بلدانهم وأقاليمهم، بشكل أفضل بكثير مما تستطيعه واشنطن. وهذا ما كشفت عنه حربا العراق وأفغانستان المستمرتان حتى الآن. لورانس كورب: محلل للشؤون الدفاعية بمركز "أميركان بروجريس" لورين تومسون: محللة للشؤون الدفاعية بـ"معهد ليكنجستون" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"